موضوع: محمد نجيب قائد الثورة التي انكرته الجمعة 18 سبتمبر 2009, 23:27
محمد نجيب.. قائد الثورة التي أنكرته!!
قائد ثورة يوليو اللواء محمد نجيب
تقدم الصبي الصغير من أبيه.. وقدم له كتابًا والدموع تنساب من عينيه متسائلا في براءة ودهشة:
ألم تكن رئيسًا لمصر في يوم ما؟
فقال الأب بابتسامة حذرة تتوقع الشر: نعم يا بني، لكنه زمن مضى.. لماذا تسأل؟
فقرأ الصبي بصوت مرتفع: "جمال عبد الناصر هو أول رئيس لجمهورية مصر".
وكأن الأب "محمد نجيب" قد تلقى طعنة في قلبه حين فوجئ باسمه قد رُفع من كل الكتب في محاولة لتزييف التاريخ...
ولم تكن تلك هي الأزمة الوحيدة التي تعرَّض لها، فقد عومل بعد ذلك أفظع معاملة يمكن أن تقدم لإنسان، فما بالنا برئيس وقائد!!
القطط والكلاب أوفى من بعض الأصدقاء؟!
ربما يكون نجيب قد اكتشف أن القطط والكلاب قد تكون أكثر وفاءً من البشر، فطيلة 30 عاما لم تكن للرجل هواية إلا تربية القطط والكلاب في فترة إقامته الجبرية في منزل بالمرج، حيث مُنع من مقابلة أحد حتى إنه كان يغسل ملابسه بنفسه، لأن جنوده "ضباط الثورة" لم يسمحوا بخادمة ترعاه، رغم كبر سنه ووهن صحته.
عانى أبوه "يوسف نجيب" اليتم مبكرا، ونشأ معتمدا على نفسه ليعمل في الزراعة والرعي، أدهش أحد أقربائه (المحامي فتحي رضوان) حيث لاحظ أن الصبي يتمتع بذكاء حاد، فأصر أن يلحقه بالتعليم، فانتظم "يوسف نجيب" في الدراسة إلى أن التحق بمدرسة "الفنون والصنايع" ثم المدرسة الحربية، التي تخرج فيها 1896، وتم إلحاقه بالكتيبة "17 مشاه" في السودان، تزوج من "زهرة" ابنة محمد عثمان أحد وجهاء أم درمان، فرزقا عام 1896 بابنهما الأكبر "محمد"، ثم تلاه بعد عام ابنهما الثاني "على" ثم أنجبت "زهرة" ست بنات.
وفي السودان تفتح وعي الصبي "محمد"، ولم يكد يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتى مُني بفقد والده يوسف نجيب -الذي ذاق اليتم هو الآخر في نفس السن- وكان محمد وقتها طالبًا بالقسم الداخلي بكلية "غوردون"، التي كانت مدة الدراسة بها 4 سنوات، عانى خلالها من التعالي الذي كان الإنجليز يعاملون به أهل البلد.
يحكي محمد نجيب في مذكراته عن حادثة تعرض لها وهي أن "سمبسون" مدرس اللغة الإنجليزية كان يملي عليهم قطعة إملاء جاء فيها: "إن مصر يحكمها البريطانيون" ، فتوقف محمد نجيب عن الكتابة، وصرخ في وجهه: عفوا أستاذ.. مصر تحتلها بريطانيا فقط.. لكنها مستقلة داخليًّا وتابعة لتركيا، فثار المدرس الإنجليزي، وقرر معاقبة هذا الطالب المصري/ السوداني بالجلد.. وبالفعل طُبق عليه هذا الحكم العجيب!!
عقب وفاة والده اضطر إلى العمل كموظف صغير براتب شهري 3 جنيهات، ثم قرر دخول المدرسة الحربية. والطريف أنه كان خائفا من قصر قامته سنتيمتر واحد عن الحد المطلوب، وحين أسر برغبته لصديقه "إبراهيم عرابي" ابن أحمد عرابي باشا، حاول إبراهيم إثناءه عما ينتوي؛ لأنه يرى أن "الضابط في بلد محتل ليس إلا مقاول أنفار للحفر والردم، ومتابعة أعمال السكك الحديدية"، لكن "نجيب" قَبِل التحدي، وقرر خوض التجربة.
"الثائر" يرتحل للقاهرة.. ويصر على حلمه
كان كل ما يمتلكه هو 9 جنيهات ترك منها 6 جنيهات لأمة وحمل الثلاث الباقيات، وارتدى الملابس الشعبية السودانية ليتسنى له الركوب في القطار بتخفيض، وبعد رحلة استغرقت 6 أيام وصل إلى القاهرة، لكنه فوجئ بتأخره 11 يوما، وأن الدفعة المطلوبة قد بدأت دراستها بالفعل، فصدم لذلك صدمة عنيفة، لكنه لم يسلم نفسه لليأس وسعى حتى اتصل بالسلطان حسين كامل وسردار الجيش البريطاني، فاختُبر في لجنة خاصة تحت ظل شجرة كافور، وأُلحق بالمدرسة ليتخرج ويعمل في نفس كتيبة والده "17- مشاه"، وعاد إلى السودان لينتظم في عمله، لكن بعد مرور بضعة أشهر أدرك أن حديث صديقه "إبراهيم عرابي" كان صائبًا، وأنه لا يعدو كونه "مقاول أنفار"؛ ولهذا لم يجد أمامه إلا إكمال دراسته في محاولة لتحسين أوضاعه، وبدأ في المذاكرة مرة أخرى حتى حصل على الكفاءة ثم البكالوريا...
مناضل من زمن.. وليس زعيما بالصدفة
يحلو للبعض أن يتهم نجيب أنه كان مجرد واجهة للضباط الأحرار، وأنه ليس إلا رمزًا فحسب، إلا أن التاريخ يُكذِّب ذلك فقد كان الرجل وطنيا من زمن، فأثناء 1919 كان بركانًا قد انفجر واستعرت حممه في القاهرة، قرر نجيب السفر لبلاده ليشارك في العمل الوطني، وفي طريقه مر أمامه ضابط إنجليزي، وكانت التقاليد العسكرية تستدعي أن يؤدي له نجيب التحية العسكرية، لكنه لم يفعل ذلك فتوقف الإنجليزي ووبخه طالبا منه تأدية التحية، وأصر نجيب على موقفه ولم يتراجع إلا عندما بادله الإنجليزي التحية العسكرية بمثلها.
وليس أدل على وطنيته من موقفه حين تزعم مجموعة من زملائه الضباط يرتدون زيهم الرسمي متوجهين صوب بيت الأمة، معبرين عن احتجاجهم وسخطهم لنفي سعد زغلول وأقاموا اعتصامًا على سلم بيت الأمة "منزل سعد زغلول".
حاول التخلص من الجيش وتبعيته العمياء لإنجلترا، فدخل مدرسة البوليس لمدة شهرين لدراسة القانون الإداري ولوائح البوليس ليتسلم العمل في أقسام القاهرة، أفادته هذه الفترة في التعرف على قاع الحياة في القاهرة، واحتك بطبقاتها المطحونة.. ومع ذلك فقد قرر العودة ثانية لصفوف الجيش.
السودان للتأمل والفكر.. ومصر للحركة والثورة
مجلس قيادة الثورة قبل الانقلاب على زعيمه في 1954
عاد إلى السودان ثانية.. لكنه عكف هذه المرة على تأمل علاقة مصر والسودان ببريطانيا، وأصدر كتابًا يرصد فيه أهم مشكلات السودان والخطر الذي يهدد وحدة وادي النيل، وبعد فترة قصيرة فوجئ بنقله وإلحاقه بالحرس الملكي، وهناك احتك بالملك فؤاد الذي لم يكن ملكًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما كان يسمي نفسه "عمدة قصر عابدين".
في عام 1927 حصل على ليسانس الحقوق، وتزوج للمرة الأولى.. وهو نفس العام الذي أصدر فيه الملك فاروق قراره بحل البرلمان -لأن أغلبية أعضائه كانوا من حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك- فتخفى محمد نجيب في ملابس سودانية، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس باشا، وعرض عليه تدخل الجيش والضباط المصريين في الأمر لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس رفض ذلك بشدة، وطالب بأن يبتعد الجيش عن الحياة السياسية وضرورة ترك هذا الأمر للأحزاب.
كان درسا هاما تعلم من خلاله محمد نجيب الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية، ويبدو أنه الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام 1954، ولكن الأمور جرت على خلاف ما كان يريد.
وفي عام 1934 تزوج للمرة الثانية بعد أن طلق زوجته الأولى وأم ابنته، وكانت زوجته الثانية "عائشة" سيدة فاضلة، ولكنها غيور جدا، أنجبت ابنه الأكبر فاروق عام 1938؛ ونظرا لغيرتها تلك تزوج من قريبة له تدعى "عزيزة"، وصار له 3 أبناء ذكور: فاروق وعلي ويوسف.
محمد نجيب لم يكن نكرة بل قائدا حقيقيا
لم يكن الرجل نكرة ولا باحثا عن مجد فقد كان بالفعل علما عسكريا فقد فاز في انتخابات نادي الضباط على الرغم من ضيق الملك والقصر بذلك، وحصل من قبل على دكتوراة في الاقتصاد عام 1929 ، كما حصل على نجمة فؤاد الأول مرتين لبسالته، كما حارب في فلسطين 1948، وأصيب فيها 3 إصابات، وحصل على رتبة فريق، وترشح وزيرا للحربية قبيل الثورة بأيام في محاولة من القصر –الذي يعلم مكانة نجيب بين صفوف الجيش- لامتصاص غضب الضباط، لكنه رفض وأعاد نفسه إلى رتبة لواء.
مات فؤاد الأول، واعتلى عرش مصر الملك فاروق، وازداد تدخل الإنجليز في حكم مصر، وحفلت البلاد بالكثير من التيارات السياسية التي ازداد نشاطها وتأثيرها في الشارع المصري، وكانت حرب 1948 وما حدث للجيوش العربية فيها وهو ما مثّل القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فقد رجع بعض الضباط الشباب الذين خاضوا مرارة هذه الهزيمة محملين بهاجس قوي يدفعهم نحو ضرورة التغيير، والتقت حماستهم مع حنكة اللواء أركان حرب محمد نجيب، وأخبروه بما ينوونه، وأعلن الرجل موافقته وإيمانه بالفكرة.
وفي صباح 23 يوليو 1952 حاصرت قوات الجيش قصر عابدين، ولم تكد تمر أيام حتى أجبروا فاروق على مغادرة مصر، والتفت الجموع حول محمد نجيب الذي أعلن أن الجيش سيؤدي ما عليه، ويرجع ثانية للثكنات تاركا الحكم لأولي الأمر.
نجيب: مهمة الجيش انتهت وليحكم الشعب نفسه
وكانت هذه التصريحات بالذات هي السبب فيما تعرض له؛ فقد تصادمت مع طموحات الضباط الشباب الذين وجدوا أنفسهم يحكمون مصر بين عشية وضحاها، وجاء الأمر أسهل مما تصوروا، فالانقلاب الذي جاء لتصحيح الأوضاع والرجوع للثكنات تحول في لحظة إلى ثورة 23 يوليو المجيدة (!) ومنذ هذه اللحظة بدأت الشباك تنصب حول محمد نجيب وحول الديمقراطية بشكل عام، وبدأ رجل قوي آخر يخرج من الظل الذي ارتاده لحاجة في نفسه، وكان هذا الرجل هو جمال عبد الناصر الذي شرع في التخلص ممن ظن أنهم يمثلون خطرا عليه، وأولهم محمد نجيب، فبدأ أولا في تدبير أزمة مارس 1954 ثم حانت الساعة الفاصلة في نوفمبر 1954 عندما فوجئ الرئيس وهو يدخل قصر عابدين بضباط البوليس الحربي، وإذا بهم يقتادونه إلى فيلا قديمة في ضاحية المرج أقصى شرق القاهرة، على وعد بأن يعود بعد أيام، ولكنه ظل حبيس هذه الفيلا حتى عام 1982، إلى أن نقلوه إلى شقة أكثر ضعة لحين وفاته عام 1984، وظل عبد الناصر قائما بأعمال الرئيس إلى أن تم انتخابه في يونيو 1956 رئيساً منتخباً لجمهورية مصر العربية بعد حصوله في استفتاء شعبي على نسبة 99,8% (!!!) من مجموع الأصوات.
السياسة في العالم العربي: لا مكان للطيبين
لم يقفوا معه عند هذا الحد بل تفننوا في إيلامه وتعذيبه، وانسحب ذلك على أسرته أيضًا وتلك مأساة أخرى، فابنه الأكبر فاروق اتهم بمعاداة النظام بعد أن افتعل معه أحد أفراد الشرطة مشاجرة وزج به في السجن ليتعرض لأقسى ألوان التعذيب النفسي والجسدي ثم يخرج مُحاكمًا مقهورا ليموت كمدا وقهرا.
والابن الأوسط "علي" الذي كان يكمل دراسته بألمانيا، ويقوم بنشاط هام في الدفاع عن القضية العربية وعن مصر ضد من يهاجمونها، اتُّهم من قبل أصدقاء والده القدامى الذين لم يعجبهم أمره بأنه يريد أن يعيد صورة والده إلى الأضواء، وقُتل في بلاد الغربة وأحضروا جثته، ومُنع الأب رغم توسلاته من شهود دفن ابنه أو الصلاة عليه، ولم يتبق له من الدنيا سوى ابنه الأصغر يوسف الذي تعثر في دراسته، وحصل على شهادة متوسطة ثم التحق للعمل بالحكومة، وتم فصله بقرار رئاسي (!!) ولم يجد أمامه إلا أن يعمل سائقا للتاكسي.
رحل الرجل في صمت في أوائل الثمانينيات بهدوء شائن لكل الأطراف ليترك لنا كتابه "كنت رئيسا لمصر" الذي حكى فيه مذكراته دون أن يسب أحدا أو ينال من أحد حتى أعنف ظالميه، وليترك علامات تعجب حول معاني الوفاء والغدر، وسؤال كبير لا يزال يطرق أذهاننا: ألا يصلح الطيبون للسياسة في أوطاننا؟